إلغاء القصاص إهدار لحقوق الضحايا

لا يتوقف الجدل في عالمنا العربي حول عقوبة الإعدام التي تطبق في كل أقطارنا العربية تقريباً، حيث يكثف نشطاء حقوقيون من مطالبهم بإلغاء هذه العقوبة القاسية والمهدرة لحقوق الإنسان - من وجهة نظرهم - بينما يصر قانونيون وإسلاميون على تفعيل عقوبة الإعدام الرادعة والعادلة، لمواجهة جرائم القتل العمد والاغتصاب والاتجار في السموم، والتي تهدد السلامة الاجتماعية والأمنية لبلادنا العربية والإسلامية . هذا الجدل والخلاف لم يمنع قضاة مصر وبعض الدول العربية من إصدار العديد من أحكام الإعدام خلال الشهور الماضية، ففي مصر وحدها يوجد على مكتب د . علي جمعة مفتي الديار المصرية 55 حكماً قضائياً بإعدام متهمين ارتكبوا جرائم قتل عمد ومثلوا بجثث ضحاياهم، في تحد صارخ لكل حقوق الإنسان فضلاً عن القيم الإسلامية والإنسانية . “الخليج” طرحت قضية الإعدام والخلاف حولها على عدد من العلماء في محاولة لتوضيح الموقف العادل في التعامل مع عتاة الإجرام الذين ابتلينا بهم في بلادنا العربية والإسلامية .


د .عبدالله النجار الأستاذ بكلية الشريعة والقانون بالأزهر وعضو مجمع البحوث الإسلامية يساند عقوبة الإعدام، ويرى أن في تطبيق هذه العقوبة حماية لأرواح الناس وممتلكاتهم وأعراضهم وحرماتهم، ويقول: لو علم كل من يفكر في العدوان على حياة الآخرين أنه سيقتص منه ويلقى المصير نفسه لانصرف عن تفكيره الشيطاني .

مبررات زائفة

ويضيف: عقوبة الإعدام عقوبة شرعية وقانونية وتطبقها الغالبية العظمى من دول العالم، وما دامت الجريمة تستوجب الإعدام، وكانت إجراءات المحاكمة عادلة فلا شيء في ذلك، بل إن هذه العقوبة هي الحل الأمثل والعقاب الرادع لكثير من المجرمين الذين انتزعت الرحمة والإنسانية من قلوبهم وتحولوا إلى وسيلة إفساد في الأرض، وبالتالي فإن إلغاءها يهدر حقوق الضحايا .


من هنا لا ينبغي أن نشغل أنفسنا كثيراً بالشعارات التي يرددها الذين يطالبون بإلغاء عقوبة الإعدام تحت مبررات وشعارات زائفة، فكيف نتعامل بمنطق الرحمة والشفقة مع أناس لا يعرفون الرحمة ولا الشفقة وارتكبوا جرائم بشعة وأفسدوا في الأرض؟


أما تعدد وتنوع الجرائم المحكوم فيها بالإعدام فهذه نتيجة طبيعية لارتفاع معدلات وأنماط الجريمة في الكثير من بلادنا العربية والإسلامية، فالمجتمع الإسلامي يعاني الآن انتشار الجرائم المنظمة والجرائم غير الأخلاقية مثل خطف الإناث والاعتداء عليهن، إلى جانب الجرائم البشعة التي اقتحمت حياتنا الأسرية فوجدنا الزوجة التي تقتل زوجها بالاتفاق مع عشيقها ورأينا الابن الذي يقتل أمه وأباه من أجل المال وهكذا، وهذه الجرائم لم تكن موجودة بهذا الحجم من قبل بسبب التماسك الاجتماعي والوعي الديني أما الآن فالجريمة انتشرت نتيجة تجاهل توجيهات الإسلام وآدابه وأخلاقياته في حياتنا العامة والخاصة .

واقع أليم

الشيخ جمال قطب الرئيس الأسبق للجنة الفتوى بالأزهر يؤكد أن كثرة إصدار أحكام الإعدام هذه الأيام ليست مبرراً للمطالبة بإلغائها فقد اتسعت نتيجة لزيادة عدد السكان، مما كشف عن عدد من الجرائم يستحق هذه العقوبات .


ويضيف: الواقع الأليم يحتاج إلى ما هو أكثر من ذلك، وإن دلت أحكام الإعدام على شيء فإنما تدل على قصور متناهٍ في أساليب التربية، كما أن وسائل الإعلام لم تقم بواجبها في إشاعة مقومات المجتمع وسلوكياته وآدابه، مما يصل بالناس إلى مجتمع تختفي فيه الجريمة أو يقل معدلها على أسوأ الظروف .


ويرى الشيخ قطب أن هذه الأحكام ضرورية جداً فكل من يعتدي على النفس أو يعمل على إرهاق المجتمع لابد له من رادع، فإذا كان الرادع إلهياً دينياً فلا شك في أنه ضروري وهام، ولا يمكن التهوين من شأنه أو التغافل عنه، مع قيام المجتمع ببقية وظائفه من إحسان التربية من قبل الأسر والمدارس وكل المؤسسات التربوية، والعمل على زيادة مساحة الأمن والأمان والضرب على أيدي المنحرفين تجنباً لهذه الجرائم .

عقوبة عادلة

ويتعجب الأستاذ بكلية أصول الدين بالأزهر، د . حذيفة محمد المسير، من الذين يطالبون بإلغاء عقوبة الإعدام تحت شعارات إنسانية براقة، ويقول: الإسلام دين رحمة وشفقة وتعامل مع الإنسان على أنه صورة مصغرة للإنسانية جمعاء، وأي اعتداء على الفرد أو إهدار لحقوقه هو في حقيقة الأمر اعتداء على الإنسانية كلها ولذلك يعتبر الإسلام إزهاق روح بريئة واحدة إزهاقاً لأرواح الناس جميعاً، فالله سبحانه وتعالى يقول: “من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً” ويذهب الإسلام إلى مدى بعيد فيرفض مجرد تمني الموت، لأن الإسلام حريص على أن يعيش الناس بالأمل، وفى صحيح الحديث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه فإن كان لابد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي”، ومتى كان مجرد تمني الموت خطيئة في منطق الإسلام فإن الانتحار جريمة أشد وأنكى فالإنسان لا يملك نفسه والأنفس كلها لله وقتل النفس كقتل الغير سواء بسواء .


ويضيف د . المسير: من كل هذه الحقائق يتأكد لنا مدى حرص الإسلام على النفس ورفضه وإدانته لكل عدوان عليها، وتشديد العقوبة على كل من تسول له نفسه العدوان على نفس بريئة، فحفظ النفس وتوفير الحماية لها أحد أهم مقاصد الشريعة الإسلامية .


ولذلك لا يجوز لأحد أن يتطاول على شرع الله وأن يتهم الشريعة الإسلامية بالقسوة وعدم احترام حقوق الإنسان فكل أحكام الشريعة تستهدف مصلحة الإنسان وحماية حقوقه وتوفير الأمن والاستقرار له .


وعقوبة الإعدام التي يطالب هؤلاء بإلغائها باسم الرحمة وحق الإنسان في الحياة هي عقوبة عادلة تستهدف اقتلاع جريمة العدوان على النفس الإنسانية من جذورها، وهذه العقوبة ليست محل اجتهاد من أحد ولا يجوز لأحد في الدول الإسلامية إلغاؤها لأنها من الحدود الشرعية الثابتة في القرآن الكريم والسنة المطهرة القولية والفعلية، وعليها إجماع الأمة سلفاً وخلفاً، وهي من شرائع الفطرة الإنسانية متى استوفت شرائطها وتحققت أسبابها .


ولابد أن يدرك من يرددون هذه الدعاوى الكاذبة المضللة التي تسعى إلى إلغاء عقوبة الإعدام وتدعي زوراً وبهتاناً الحفاظ على النفس الإنسانية أن تنفيذ هذه العقوبة يرفع عن المجتمع ويلات كثيرة ويحميه من مخاطر جمة، وأن التغاضي عن القصاص من القاتل سيؤدي إلى نشر الفوضى في المجتمع وسيزهق أرواح الأبرياء من دون رادع، وإذا كان هؤلاء المنادون بإلغاء عقوبة الإعدام يحرصون على نفس قاتلة، فلماذا لا يذرفون الدم بدلاً من الدمع رحمة بأسر تشردت بعد عائلها، وأبناء تيتموا بعد أبيهم ونساء ترملن بعد أزواجهن؟

الإعدام علناً

وبعد أن ازدادت جريمة الاغتصاب في مصر وعدد من البلاد العربية والإسلامية طالب الكثيرون بتنفيذ عقوبة الإعدام علناً على من يرتكبون هذه الجريمة، تنفيذاً لما نص عليه القرآن الكريم في قوله تعالى “وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين”، فهل هذا مقبول ومطلوب في بلادنا العربية الآن؟


يقول مفتي مصر د . علي جمعة: العلانية في تنفيذ هذه العقوبة ضد من يرتكبون هذه الجريمة الشنعاء موجودة، وهي تتمثل في وجود الشرطة والنيابة عند تنفيذ الحكم، وأنا أؤيد الإعلان عن موعد تنفيذ العقوبة في كل وسائل الإعدام، أما عرض الشخص المدان في هذه الجريمة وهو يشنق في وسائل الإعلام وأمام كاميرات التلفزيون، فإنه يؤذي مشاعر النساء والأطفال ويصدم مشاعر أهله ويجلب لهم مزيداً من الألم والفضيحة .


ولذلك لا أرى حاجة إلى تنفيذ عقوبة الإعدام علناً في الذين يرتكبون جرائم الاغتصاب، ويمكن أن نستعيض عن ذلك بإعلان الأحكام الصادرة ضدهم في كل وسائل الإعلام، ولا مانع من نشر صورهم في هذه الوسائل بعد إدانتهم لكي يكونوا عبرة لغيرهم .