لا تزال الفتوى التي أصدرها د. علي جمعة مفتي مصر باعتبار قتلى حادث الغرق الأخير لشبان عاطلين على السواحل الإيطالية "طماعين" وليسوا "شهداء"، تثيرا جدلا فقهيا وسياسيا كبيرا، بعدما انتقد برلمانيون وسياسيون وإعلاميون صدورها دون مراعاة للحال النفسية لأسر الشبان الغرقى الذين كانوا ينوون التسلل لإيطاليا بحثا عن عمل، ودون البحث عن السبب الرئيس لهجرتهم غير المشروعة وهو البطالة، فيما انتقد علماء صدور فتوى بناء على نوايا غير مؤكدة للقتلى. وكان د. جمعة اعتبر أن المصريين الذين غرقوا قبالة السواحل الإيطالية "ليسوا شهداء لأنهم لم يذهبوا في سبيل الله، وإنما ذهبوا من أجل أطماع مادية وألقوا بأنفسهم في التهلكة في نوع من المغامرة". وقال المفتي في أعقاب حادثة غرق مركبين تقلان 147 شابا على سواحل إيطاليا نجا بعضهم وغرق الآخرين، أمام شباب وطلاب جامعة القاهرة بكلية دار العلوم الثلاثاء الماضي "ما الذي يدفع شابا لينفق 25 ألف جنيه مقابل السفر؟ في حين أن هذا المبلغ يضمن له بدء مشروع في بلده"، وأكد "أن رجل الإطفاء الذي يموت وهو يؤدي عمله يعتبر شهيدا وكذلك الذي يعمل على مركب ويموت غرقا فهو شهيد، أما الذين غرقوا قبالة السواحل الإيطالية فهم ليسوا شهداء لأنهم لم يذهبوا في سبيل الله وإنما ذهبوا من أجل أطماع مادية وألقوا بأنفسهم في التهلكة في نوع من المغامرة". وفي أعقاب حملة الانتقادات الشديدة للمفتي، واتهام صحف معارضة الحكومة بأنها السبب في هجرة هؤلاء الشباب للخارج بحثا عن عمل؛ لأنها لا توفر لهم العمل ولا تنقذهم من البطالة، سعى د. جمعه للتراجع عن فتواه أو التخفيف من حدتها بعدما أثرت طريقة نشرها في الصحف سخط أهالي المتوفين؛ حيث قال في لقاء بالعاملين بدار الإفتاء الخميس الماضي "إن الحكم بالشهادة من عدمها في حادث أو غرق يحتاج إلى معرفة نية الميت، وقد يختلف الأمر من فرد إلى آخر رغم أنهم ماتوا في حادث واحد". ولكنه، فيما يشبه الإصرار علي فتواه، عاد ليقول "إن الهجرات غير الشرعية وغير الآمنة بها مخالفة لله وولي الأمر"، وأكد "أن المغامرين بحياتهم من أجل طموحهم المادي ليسوا شهداء، وأن الشريعة الإسلامية حريصة كل الحرص على الحفاظ على حياة وأرواح أبنائنا الشباب، وأن الشريعة ترفض وتحرم على المسلم أن يعرض حياته أو جسده للأذى حتى ولو كان لطلب الزيادة في الرزق من خلال السفر إلى دول أخرى بطرق وأساليب غير مشروعة وغير آمنة، والتي تؤدي إلى الهلاك أو التوقيف والسجن أو الغرق في الوقت الذي يأمن فيه ويسلم في بلاده". بيد أن الشيخ "جمعه" طالب أجهزة الدولة ورجال الأعمال بالقيام بواجبهم للقضاء على البطالة التي تهدد الاستقرار، بعدما تقدم عدد من نواب البرلمان بطلبات ضد فتوى المفتي قائلين "إن الفتوى تؤثر على حق أسر الشباب في الحصول على تعويضات عند مقاضاة الجناة وراء الحادث". وكان د. علي جمعة ذكر عقب حملة الهجوم عليه أن تصريحاته تناولتها وسائل الإعلام بصورة غير دقيقة، وقال في مداخلة مع برنامج 90 دقيقة الذي يذاع على قناة "المحور" المصرية الفضائية "إنه أثناء حواره مع طلاب جامعة القاهرة حوَل الموضوع إلى قضية علمية وتساءل عن السبب وراء سفر شاب عمره 14 سنة، وإذا كان وراء ذلك عصابات المافيا والدعارة، فوجود أطفال يمتلكون 25 ألف جنيه ويريدون السفر للخارج وراءه علامة استفهام؟". وقال "إنه يجب قبل إعطاء الحكم الشرعي إدراك ماهِيَّة الأسباب الحقيقة التي دفعت هؤلاء الشباب، وهل هو الطموح أم حب المغامرة أم الإحباط أم عدم الكفاءة المهنية أم غير ذلك؟ مطالبا جميع المراكز البحثية إلى التدقيق والبحث في هذه الحالات للبحث عن الحلول العلمية للقضاء على هذه المحاولات التي تحصد أرواح شبابنا". من جانبه أكد الشيخ إبراهيم نجم مستشار المفتي أن السؤال الذي وجه إلى فضيلته حول هذه المسألة كان مرتبطا بأهمية عدم تحويل المسائل إلى قضايا والاهتمام بدائرة العمل وليس الخبر. وتكررت في السنوات الأخيرة الماضية حوادث غرق شباب مصريين على السواحل المصرية والإيطالية، بسبب الإقبال الشديد من الشباب العاطل على السفر لإيطاليا بسبب قربها من مصر وبسبب شائعات عن سهولة الإقامة فيها، آخرها حادثة غرق الـ147 شابا، فضلا عن سفينة أخرى في رحلة للهجرة غير الشرعية إلى إيطاليا تقل 100 شاب تعرضت للغرق قرب جزيرة كريت اليونانية وتم العثور عليها. وتقوم عصابات بتسفير هؤلاء الشباب على مراكب صيد قديمة، وخداعهم تارة بالإبحار بهم عدة أيام قبالة السواحل المصرية ثم مطالبتهم بالقفز بدعوى أنهم الآن أمام السواحل الإيطالية وعليهم السباحة إليها ليفاجئوا أنهم على شاطئ مصر، وتارة بإلقائهم على السواحل الإيطالية؛ حيث يغرق البعض ويتم إلقاء القبض على آخرين وإعادتهم لمصر مرة أخرى. وتشير إحصاءات مصرية إلى أن تزايد نسبة البطالة بشكل كبير بين الشباب والتي تتراوح بين مليونين وستة ملايين شاب بنسبة تقترب من 10-20% من العمالة، واكبها زيادة إقبال الشباب على السفر إلى الخارج خصوصا الدول الأوروبية، بهدف تحقيق الثراء السريع من جانب شباب تأثروا بالأفلام الأجنبية وقصص رواها نفر قليل منهم سافر للخارج وعاد غانمين بعدما استقروا هناك منذ سنوات وتزوجوا أوروبيات. ومع تزايد راغبي السفر وانسداد أفاق السفر الشرعي بسبب القيود الشديدة على تأشيرات الدول الأوروبية وأمريكا، بدأت تظهر عصابات لتسفير الشباب بطرق غير شرعية أشهرها السفر عبر البحر بمراكب صيد متهالكة من الشاطئ الليبي القريب من إيطاليا، أو عبر موانئ مصرية. وبين حين وآخر تشهد صالات الوصول بمطار القاهرة الدولي مشاهد مأساوية في صورة مجموعة من الشباب المحطم نفسيا وماديا قادمين وسط حراسة أمنية مشددة من الجهات الأمنية في البلاد الأوروبية المرحلين منها، بعدما كانوا يحلمون بالسفر إلى هذه البلدان والعيش حياة رغدة، وكل منهم يروي حكاية مختلفة عن ظروف معيشية صعبة وبطالة قاتلة دفعته للبحث عن أية وسيلة للسفر