فهد محمد السلمان

يبدو الشتاء ثقيلاً هذه المرة أكثر من المعتاد، خاصة حينما تواترت الأنباء من هنا وهناك عن بعض ضحاياه من البؤساء والضعفاء وممن لا يمتلكون شروى نقير، ففي إحدى الأماسي الشمالية القارسة استوقفني مشهد مؤثر لاثنين من العمالة الآسيوية، كانا يقطعان الطريق أمام الإشارة الضوئية التي تصادف وقوفي عندها، ويرتديان ملابس لا علاقة لها بطقس كهذا، حينما توقفا فجأة، وتنازل أحدهما للآخر عن جوربيه!.


كان مؤشر الحرارة في السيارة يقول إننا على مشارف الصفر، مع أنني عادة لا أصدق المؤشر ولا مذيعي النشرة الجوية الذين كثيراً ما يجعلوننا نشكك في سلامة أحاسيسنا، و ارتعاشات أجسادنا، وقفقفة أسنانا.

عندها قررت أن أختصر عليهما مسافة البرد فتوقفت جانباً وحملتهما معي، كان أحدهما عاجزاً تماماً عن تأهيل فكيه لإطلاق جملة مفهومة، ليتولى رفيقه إيضاح بعض عباراته المرتعدة التي كشفت عن أنه قدم من الهند منذ أقل من شهر، وأنهما يعملان معاً في مؤسسة خاصة، وأن الكفيل الذي يحشرهم في حوش قديم ينتهي بغرفة مسقوفة من الصفيح، على تخوم المدينة مع ثمانية آخرين، لا يعبأ كثيراً بمثل هذه الظروف قدر ما يهتم بمسألة حضورهم في مواقع عملهم مع إفاقة الشمس.

وفي طريق عودتي تذكرت كم نسرف كثيراً في استخدام تلك التوصيفات الباهرة لمجتمعنا، كم نلفق له من عبارات التمجيد بأنه مجتمع التكافل والتراحم، كما لو كان مجتمعا مفروزا من مجموعة من الأتقياء والأنقياء، الذين تسبق إنسانيتهم خطاهم أينما ولوا وجوههم.

تذكرت أولئك الذين يعيشون تحت الصفر وفوق الصقيع، من عمال النظافة في الشوارع الذين يبدؤون أعمالهم مع العصافير، وطلبة المدارس في بعض القرى من المعدمين ممن يبدؤون عامهم بنفس الملابس وينهونه بها، يغسلونها من حين لآخر وينتظرون ساعة جفافها، تذكرت طفل الشملي المغدور برداً، وفتاة عرعر..

لكني قبل هذا وذاك، تذكرت كيف تمنع بعض الدول العاملين في المواقع المفتوحة والهواء الطلق من مزاولة أعمالهم في بعض الظروف المناخية القاسية حراً وبرداً.

أين نحن من هؤلاء؟.. أين نحن من حارس ليلي لا يكاد يغطيه غير جلده، وأرملة تعيش على الضمان مع أطفالها تغطيهم أزواجا بلحاف واحد ما أن يستوي حول جسد أحدهما حتى ينحسر عن الآخر.. سؤال مخيف، قد يكشف عن سوءاتنا.. لكنه حتما سيكشف عن موقع هذه الجمعيات الخيرية التي تملأ الوطن، ولكنها تنفق على المحاضرات والندوات أكثر مما تنفق على هذه الإنسانيات التي تتقطع لها نياط القلب!!.

*نقلاً عن صحيفة "الرياض" السعودية